ZAILA.COM
Asilah.fr

CULTURE LOCALE

MENU

عبدالسلام الجباري 

zaîla.lettres 

يحيي بن الوليد 

يحيي بن الوليد 


لا نتصور أن الاهتمام بنظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي كان سيكون، وداخل العالم العربي، وبهذه الحدة المتزايدة، لولا ارتباطها، وفي المقام الأول، باسم الأكاديمي الأمريكي والكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 ــ 2003) الذي استطاع، وبمفرده، أن يجترح، وبكثير من التفرد، 'تيارا' ألقى، ولا يزال، بظلاله وتأثيراته في العالم ككل. ومعنى ذلك أن الرجل 'تجاوز'، ومن ناحية الحضور الفطن والإسهام المؤثر، العالم العربي الذي تحدّر منه، بل وتدرج فيه (فلسطين، مصر، بيروت) قبل أن تكتمل صورته، هناك، في نيويورك (العاصمة ــ العالم) التي كان مهـيّـأ ، ومعرفيا ابتداءً، لاستيعاب تفجرّها النظري الأكاديمي ولفهم ، وبالتالي نقد، 'تغولها' الاستشراقي الإمبريالي الإمبراطوري.
وقد ارتقى إدوارد سعيد، وفي سياق 'نقد الاستشراق'، بالعالم العربي، المثقل بمظالم الاستعمار وبراثن التخلف، إلى مصاف 'السؤال العالمي'، وخصوصا من ناحية فلسطين التي ولد فيها والتي ارتقى بها إلى مدار 'الفكرة المقلقة' داخل الغرب الذي لا يزال، ومن وجوه كثيرة، 'متصهينا'. وكل ذلك بالاعتماد على منظور ثقافي تحليلي ثاقب برهن فيه على أنه لا مجال للمداورة والمراوغة والمهادنة؛ منظور لا يخلو، في النظر الأخير، من 'عنف' هو عنف المثقف النقدي الجدلي الاعتراضي من ناحية، وعنف الملتزم الشاهد على قضيته من ناحية موازية.
ولعل أول ما يمكن التأكيد عليه، وليس من شك في أننا لا نقصد هنا، ذلك النوع من 'التأكيد غير الإيجابي' الذي تحدّث عنه ميشال فوكو، هو 'التكوين الأكاديمي الصلب' الذي ضمن لخطاب إدوارد سعيد 'بعدا عالميا' وبالقدر نفسه كان في أساس 'انتشاره' وفي أساس حضوره العالمي المتزايد والمتناقض في آن واحد. فلقد استوعب النظريات الأدبية واللغات النقدية، بل وتمكن من استيعاب كل معطى متاح، وكل ذلك قبل أن ينقلب على السياق الأكاديمي الأمريكي الذي ظل مرتبطا به ومحاورا إياه حتى الرمق الأخير من حياته. وكل ذلك في المدار الذي أفضى به إلى اجتراح نمط قرائي/ تأويلي مغاير مكـّنه، ومنذ أول إسهام له (1966)، من الاقتران بصورة 'الناقد الأدبي الجذري' التي سيطّل بها على العالم. وعلى هذا المستوى فقد ظل حريصا على تصنيف نفسه، وهو العدو الشرس لمبدأ التصنيف، باعتباره 'ناقداً أدبيا'، ثم إن نبرة الناقد (الأدبي) ظلت متسرِّبة في الجبهات المتنوعة التي خاض فيها.
وإدوارد سعيد كذلك 'علامة' لافتة ومثيرة في الثقافة الكونية ككل، وقلما يجود الزمن بها، وخصوصا زمننا الثقافي العربي المغلوب والشاحب. وسعيد يمتد، ومن وجوه عديدة، إلى زمننا هذا. ويشهد له بهذه المكانة، النادرة، الكثير من نقاده وسواء من مريديه أو من أعدائه (وما أكثرهم!). وهذا ما يفسر الكتابات المتكاثرة حوله في سائر أقطار العالم، وقد بلغت هذه الكتابات حد 'الطفرة'. وكما يحصي البعض فمعدّل الكتب حوله، وعلى مدار العام الواحد فقط، هو ستة كتب. هذا لكي لا نشير إلى سيل المقالات المتناثرة والدراسات المتفرقة التي يصعب حصرها؛ وعلى هذا المستوى يمكن الحديث عن 'أرشيف ضخم' بخصوص منجز إدوارد سعيد.
وحتى إن كانت نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي ما تزال قيد التبلور والتشكل، وحتى إن كانت تستخدم فرعا من مجال أوسع لا يقل عنها غموضا هو مجال 'الدراسات الثقافية' كما يقول أصحاب 'الإمبراطورية ترد كتابة'، فإن أهم ما يميّزها أنها غير محكومة بما ينعته البعض بـ' التصدير الخطابي' ( للمناهج والنظريات وللحداثة وما بعد الحداثة) الذي ظل يطبع علاقة أبناء العالم الثالث بالغرب في إطار بحثهم اللاهث عن 'العكازات النظرية والمنهجية' التي رأى فيها ف. س. نايبول، وساخرا، ما يشبه 'لعب القردة'. ففكرة النظرية الأدبية ما بعد الكولونيالية انبثقت من عجز النظرية الأوروبية عن التفاعل بشكل ملائم مع تعقيدات الكتابة ما بعد الكولونيالية، وتنوع ملامحها الثقافية كما يقول صبحي حديدي في مقال 'الخطاب ما بعد الكولونيالي ـ في الأدب والنظرية النقدية'. ومن ثم منشأ 'الطابع المثير' للنظرية، ولا سيما في العالم الثالث الذي ينتسب له، أدبا وثقافة وتاريخا، العالم العربي.
وربما توجبت الإشارة، في نص هذا التقديم، إلى أن النظرية لا تحاول أن تفسر كل الأشياء في هذه الدنيا... بل تقتصر على هذه الظاهرة الواحدة المهملة، وهي: السيطرة على ثقافة معينة من قبل ثقافة أخرى كما يتصور دوغلاس روبنسون. ويأخذ خطاب ما بعد الاستعمار على عاتقه الاضطلاع بتحليل كيفية استمرارية الحقيقة التاريخية للاستعمار الأوروبي في إطار تشكيلها للعلاقة بين الغرب و'اللاغرب' في أعقاب حصول المستعمرات السابقة على استقلالها، وكل ذلك في المدار الذي لا يفارق ما يسميه سعيد بـ'الخريطة الإيديولوجية' التي ظل الغرب بواسطتها يتحكّم، أخلاقيا وثقافيا، في مستعمراته القديمة في آسيا وإفريقيا. وهو ما يندرج ضمن ما ينعته البعض بـ 'الظاهرة التاريخية للاستعمار'. هذا بالإضافة إلى أنه حتى اليوم لم يحصل ذلك الاعتراف الأوروبي الصريح بـ'خطايا الاستعمار' كما يقول سعيد في كتابه 'نهاية عملية السلام'.'
وقد يعترض معترض علينا، هنا، بما فعلته إيطاليا ممثلة برئيس الوزراء سيلفيو برلسكوني الذي أقدم شخصيا، وباسم الشعب الإيطالي، العام 2008، على الاعتذار على الحكم الاستعماري لليبيا على مدار الفترة الممتدة من 1911 إلى 1943... مشدِّدا، في الوقت ذاته، على 'الأضرار' أو ــ وبلغة ' دراسات ما بعد الاستعمار' ــ 'الجروح الكولونيالية' التي خلّفها الاستعمار الإيطالي في بلد 'عمر المختار'، بل وتمَّ تعويض الشعب الليبي (وماديا) على هذه الجروح، وهذا أقصى ما يمكن أن يتم كسبه في ظل هذا الظرف الذي لا تزال فيه دول (إمبراطوريات سابقة) مصرُّة على عدم 'الرد' بخصوص هذا الملف بحجة أنه 'ينتمي إلى الماضي'. والمؤكد أن 'الاعتذار' الإيطالي، للشقيقة ليبيا، قابل لأن يقرأ قراءات أخرى لا تقف عند 'مستواه الحرفي'. وكم تمنيت، وأنا أتابع الحدث، وككثيرين، لو أن العمر كان قد أمهل البروفيسور إدوارد سعيد حتى يقدّم قراءته التحليلية المقرّبة في 'الحدث'، تلك القراءة التي تلتقط أبرز التفاصيل، وبدءا من دلالة الهندام إلى محتوى الرسالة السياسية، وبما لا يدعو لـ'الثقة العمياء' في 'سرديات' الغرب. غير أن ذلك لا يحول دون ربط 'الاعتذار' بسياق 'الكعكعة الليبية' الذي هو سياق أو بالأحرى سباق الغرب على النفط. ومن هذه الناحية، وبسبب من الاعتذار ذاته، سيكون لإيطاليا الأولوية في استثمارات النفط والغاز والاستثمارات الأخرى لأنها 'دولة صديقة' بالنسبة لليبيا. ومن ثم فهل هو 'اعتذار عن فظاعات سنوات الاستعمار أم نفاق إمبريالي جديد؟' تبعا لعنوان مقال سعينا فيه، وباستثمار بعض مفاهيم خطاب ما بعد الاستعمار، إلى 'التعليق' على الحدث.
وتجدر الملاحظة إلى أن الاستعمار الأوروبي الحديث كان ظاهرة تاريخية وجغرافية دقيقة، ولم يكن ظاهرة تتكشف عن وحدة متراصة وتناغم كلي كما تقول الناقدة الهندية آنيا لومبا، كما أن تفكيك 'الاستعمار الرسمي' استغرق ثلاثة قرون كما تضيف الناقدة نفسها في كتابها 'في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية'. وقد خلّف الاستعمار تركات متنوعة ومتعددة حتى وإن كانت تجاربه تشترك في بعض الخصائص. غير أنه، وعلى الرغم من الفوارق بين الممارسات الإمبريالية، وعلى الرغم من أنه لا وجود ' لوسيلة واحدة وواضحة لقياس الاستعمار' كما يقول برجيسن وشونبرج، ' فإن المهم أن نؤكد على ما هو مشترك في كل تلك التشكيلات' كما يقول كريسمان.
إجمالا ليس هناك 'جوهر ما بعد كولونيالي' تشترك فيه الأمم التي خضعت للاستعمار، ثم إن هذا الأخير بقدر ما كان منتشرا بقدر ما كان متغايرا. وحتى إن كان العالم العربي لم يتعرض لاستعمار شرس كما حصل في أقطار أخرى، باستثناء ما حصل في الجزائر، فإن 'ثقافة' هذا العالم الأخير قابلة لأن تدرس اعتمادا على منظور 'المشكلات الناجمة عن التجربة الإمبريالية'. وتكمن أهمية النظرية في أنها تحررنا من منظور 'سوسيولوجيا التخلف أو نظرية التبعية' التي سادت، من قبل، في المقاربات التي عنيت بالعالم الثالث تحديدا.
وقد تمت معالجة منجز إدوارد سعيد اعتمادا على مناظير كثيرة سعت إلى مقاربة الجبهات التي خاض فيها اعتمادا على منظور تحليلي قوي واعتمادا على أسلوب قوامه العبارة المحمَّلة بالفكر النقدي وبالموسيقى الراقية التي أحبّها سعيد بل وتعاطى لها عزفا في حياته اليومية مثلما كتب عنها في أهم المجلات العالمية التي تعنى بالنقد الموسيقي. وقد سعى دارسوه، ومحاوروه، إلى التوقف عند إسهامه في مجال النشاط النقدي الذي هو مجاله الأثير، وفي مجال التنظير الذي لا يقّل فيه تأثيرا، ومجال النقد السياسي الذي كتب فيه بجرأة نادرة، والنقد الموسيقي الذي أبدع فيه... ودون التغافل عن 'صور' أو 'تمثلات المثقف' (المنفي) التي نظّر لها.
وحتى إن كان سعيد 'نتاجا للغرب'، لكن بكثير من 'الجروح الكولونيالية' الغائرة، فقد تبدّى لنا، في هذا الكتاب الذي يتقوّم على مقالات متصلة فيما بينها، أن نعالج موضوع 'الحضور السعيدي' في الفكر العربي المعاصر. ولا نخفي أنه موضوع درسه البعض من قبل (وبتفاوت)؛ لكن بشكل بدا لنا، في الأغلب الأعم، 'جزئيا' أو 'بعضيا'. فما نعثر عليه، هنا، وفي إطار مما هو متاح في عالم النشر، لا يعدو أن يكون مقالات متباعدة ومعدودة في الوقت ذاته. هذا لكي لا نشير إلى بعض الأطاريح الجامعية التي لا تزال، وسواء في مصر أو في المغرب أو في غيرهما من البلدان العربية، تقاوم غبار الخزانات... ولم يكتب لها، بعد، أن ترى النور.
وبتأكيدنا على هذا النوع من الحضور، وخصوصا من ناحية إدوارد سعيد، نكون قد ابتعدنا عن دعوى مفهوم 'تجدّد الاستشراق' (وبمعناه العام كذلك، أي 'الاستشراق الكبير') طالما أن هذا الصنف من الدعوى يسعى، وعلى مستوى التضمن واللزوم، إلى التلويح بعدم نجاعة 'المقاربة السعيدية' في تدبُّر ملفات حارقة وضمنها ملف العرب. وحجة أصحاب هذه الدعوى، كما يلخص هشام صفي الدين في دراسته 'الاستشراقيون الجدد والاستعمار عن بعد: رجال وآليات' (مجلة 'الآداب'، العدد 7 ــ 9، 2008)، هي ما شهده النتاج الفكري الغربي على مدى العقديْن المنصرمين من نظريات جديدة أخذت تلعب دورا محوريّاً في مقاربة القوى الغربية الرئيسية لقضايا العالم الثالث، وخاصةً أفريقيا والشرق الأوسط. وهذه النظريات، هي: 'نظرية الحروب الجديدة'، و'مبدأ مسؤولية الحماية'، و'مفهوم الدستورية الجديدة'. هذا بالإضافة إلى 'أخلاقيات المستعمِر الجديد' الذي يَجْهد للابتعاد 'شخصيا' عن عملية الاستعمار، ولكن من دون التخلّي عن الهيمنة والسيطرة الضروريتين لخدمة مصالحه. والخلاصة، هنا، وعلى لسان صاحب الدراسة، ' إن تجدّد الفكر الاستشراقي لا يجابَه إلا بتجدّد الفكر المناهض له والتفوقِ عليه. لقد أدرك إدوارد سعيد ذلك جيدا، وكان أهلا للتحدّي في زمنه. فهل يأتي مَن يكمل المهمةَ في زمننا الحاضر؟'.
ولا بأس من أن نشير، هنا، إلى دعاوى من نوع آخر، وتصدر داخل الغرب هذه المرة، كتلك التي تسعى إلى التأكيد، وإن من خلال صيغة التساؤل المراوغ والزئبقي، على أن 'معاداة الاستعمار' بدورها 'مستعمَرة' جنبا إلى جنب 'أصول' منظري نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي 'المَمْحُوَّة' بسبب من 'تحيُّز' هؤلاء، ومن ناحية النظرية، الكاشف عن 'المركزية الغربية'، على نحو ما نقرأ في مقال صغير، مكثَّف، وموقَّع بحرفين P B، بمجلة 'Le Magazine Li'raire' (العدد 485، نـيـسان / أبريل 2009). ولعل في ذلك ما يدعو إلى زرع نوع من 'الشك' في النظرية، والتلويح ــ بالتالي ــ بعدم 'نجاعتها'، موازاة مع قطع الطريق على محاولات 'تأصيلها' داخل الفضاء المفهومي للفكر العربي المعاصر.
نتصور أن موضوع 'إدوارد سعيد وحال العرب' لا يخلو من 'راهنية' و'جدّة' في الوقت نفسه، إضافة إلى أنه موضوع 'مُركّب'. ونتصور أن تأثيره، في الفكر العربي المعاصر، ودونما إغفال للنقد الأدبي في خطابه، لا يقل عن، إن لم نقل يفوق، تأثير العديد من المفكرين المتفرغين، وباللغة العربية، وبالكلية، للكتابة عن القضايا التي تخص العرب. هذا وإن إدوارد سعيد يدعونا، وعلاوة على ما سلف، إلى أن نلتفت إلى ما يحدث في العالم الذي من حولنا. غير أنه، ومن هذه الناحية بالذات، يظل موضوع 'إدوارد سعيد وحال العرب'، في حاجة إلى 'النقد' أيضا... حتى ننأى به عن أي نوع من المقاربة التي تستند إلى 'التشنج القومي' أو 'التصوف القومي' الذي لا يخدم الموضوع. فإدوارد سعيد لا يمكن 'استعماله' بخصوص موضوع العرب، هذا بالإضافة إلى أنه بدوره تعامل بـ'حذر' مع العرب. ولم يغطس في الكتابة عن 'الشرق' مخافة، وكما قال، من أن يتحول إلى 'مستشرق إضافي'. غير أن ذلك لا يحول دون التشديد على 'تأثيره' في الفكر العربي، خصوصا وأن خطابه يمثّل 'أفقا' قابلا لـ'الامتداد' و'الاستجابة' للكثير من مشكلات العرب الجديدة/ القديمة.
وقد بدا لنا أن نمهِّد لموضوع 'إدوارد سعيد وحال العرب' بدراسة مطولة ' نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي' سعت، وبطريقة رصدية، وبكثير من التشديد على إدوارد سعيد، إلى تقديم النظرية في سياقها الثقافي والتاريخي الأمريكي جنبا إلى جنب البحث في 'الجذور المعرفية' أو 'السند النظري' في 'خطاب ما بعد الاستعمار' حتى لا نختزل هذا الأخير في نطاق إيديولوجي مسطُّح يعيد، خصوصا وأننا نعيش في زمن 'الأصوليات المتصادمة'، حكاية 'صدام الحضارات' التي انتقدها إدوارد سعيد بلا هوادة.
وبعد ذلك خلصنا إلى ما يمكن عدّه قسما ثانيا سعينا فيه إلى دراسة الموضوع الذي هو مدار الكتاب، ونقصد موضوع 'إدوارد سعيد وحال العرب'. وقد ارتأينا، في الدراسة الأولى 'إدوارد سعيد والعرب'، التي تتصدر القسم، أن ندرس ' تصور' إدوارد سعيد نفسه للعرب، تصوره الذي يشدد على 'أسماء' دون أخرى والذي يصل بين ما هو ' ثقافي' و'سياسي' في تدبر موضوع حال العرب. فيما ارتأينا، في الدراسة الثانية (المعكوسة) 'العرب وإدوارد سعيد'، أن ندرس 'تلقي' النقاد والمفكرين والكتاب العرب لـ'النص السعيدي'. ويتراوح هذا التلقي ما بين المقال والدراسة والشهادة والتحية... بل والإشارة، ويكشف عن مكوني 'المعرفة' و'الإيديولوجيا' في انفصالهما تارة وفي تداخلهما تارة أخرى.
أما الدراسة الموالية 'درس إدوارد سعيد' فيمكن النظر إليها، وعلى طولها، كخلاصة للدراسات السابقة. وقد سعينا فيها إلى البحث في 'الدرس' الذي يمكن 'استخلاصه' من 'المنجز السعيدي' في سياق البحث عن 'الأجوبة' على ما يمكن نعته بـ'الأسئلة اللاهبة' التي تفرض ذاتها، وبإلحاح، داخل الفكر العربي المعاصر. والظاهر أن الدراسة لا تخلو من صلات مع الدراستين السابقتين، وخصوصا من ناحية 'نقد النقد' الذي نتصور أن الكتاب يسعى إلى أن يتأطر داخله. ونقد النقد، هنا، أو بالأحرى كما نحلم به، بمعناه 'الجذري' الذي يتجاوز 'الوصف الاستعادي' (لكي لا نشير، وعلى سبيل التمثيل، إلى ما يسميه ميشال فوكو 'الوصف النقدي') نحو البحث في المقولات النظرية والمستندات التصورية للخطابات. وخطاب في حجم خطاب إدوارد سعيد جدير بتفعيل نوع من 'المراجعة الهرمينوطيقية' بالنظر إلى حجم ما كُتب حوله حتى وإن كان ما كتب عنه في العالم العربي لا يرقى، ومن ناحية 'القيمة النقدية'، إلى ما كتب عنه في الهند، تعيينا. وكما تجدر الإشارة إلى أننا آثرنا أن نذيل الكتاب بدليل بيبليوغرافي عنونّاه بـ'إدوارد سعيد عربيا: بيبليوغرافيا تقريبية' وعيا منا ببعض المشاكل التي لا تزال تصادف الدارس على مستوى تصنيف 'أرشيف' إدوارد سعيد. ولا نخفي أن هناك محاولات في هذا المجال لا تخلو من أهمية، وقد اعتمدنا عليها بدورنا في دليلنا. ونقصد، هنا، ' دليل بيبليوغرافي لإدوارد سعيد' لياسمين رمضان المنشور ضمن ملف 'إدوارد سعيد والتقويض النقدي للاستعمار' (مجلة 'ألف'، العدد 25، 2005، صص 240 ــ 242)، و'بيبليوغرافيا إدوارد سعيد' الذي ذيل بها جمال محمد مقابلة مقاله 'الناقد الإنسي لدى إدوارد سعيد' المتضمن في كتاب 'تحولات الخطاب النقدي العربي المعاصر' (صص 54 ــ 55). والملاحظ، هنا، أن البيبليوغرافيتين لا تشغلان إلا حيزا صغيرا جدا، إضافة إلى أنهما لا تكترثان بإدوارد سعيد من خارج دائرة الدراسات المكرسة والملفات المبدئية. وهو عمل لا يعكس 'ثراء الحضور السعيدي' في الفكر العربي المعاصر، ولذلك عمدنا إلى توسيع 'المتن البيبليوغرافي' في سياق التأكيد على هذا النوع من الحضور.
وأما المشكل الأبرز المتعلق بتلقي إدوارد سعيد، في الفكر العربي المعاصر، وفي سياق فهمه وبالتالي نقده، والذي لم نشر إليه، فهو مشكل 'الترجمة'. والترجمة، هنا، باعتبارها 'تلقيا' و'تدخلا' و'تأويلا' و'فكرا'... وباعتبارها 'سلطة عصر' كذلك. ومن هذه الناحية فقد ترجمت أغلب نصوص إدوارد سعيد إلى العربية، ولم تتبق منها إلا نصوص معدودة جدا. وحتى إن كانت الترجمة قد أسهمت، ومن وجوه عديدة، في 'تعقيده' و'إرباكه'، في الفكر العربي، ودون أن نتغافل عن صعوبة 'نهج العبارة المبطنة' الذي يعتمده سعيد في الكتابة، فإنها، أي الترجمة، وفي النظر الأخير، قدّمته، وعلى تفاوتها، بل وتناقضها في أحيان، داخل العالم العربي. ولعل حجم مشكل الترجمة ما جعلنا نعالج موضوعها على مدار الدراسات الثلاث، وكل ذلك من خلال جملة من الأفكار أو الإشارات المتباعدة في أحيان والمتقاربة في أحيان أخرى.
إجمالا لقد صار الفكر 'متوالية قرائية'، خصوصا وأن 'القراءة'، هنا، بمعناها الفلسفي الاصطلاحي المعاصر الذي يصل 'الأنماط القرائية المتباينة' بـ'صراع التأويلات' في النسق القرائي ذاته. ومن ثم منشأ ما تنعته الدراسات التأويلية بـ'الفكر القرائي'. وتلقي 'النص السعيدي'، وعلى مستوى هذا الفكر الأخير، وعلاوة على 'الأستاذية' التي يمثلها صاحبه في الفكر الكوني ككل، جدير بالكشف عن 'الأفق المفترض' للفكر العربي المعاصر نقدا وفكرا وترجمة. وكل ذلك في المنظور الذي لا يفارق تدبر دلالات 'الأجوبة المواقفية' على مستوى التفاعل مع القامات الوازنة التي سعت، وفي الثقافة وبالثقافة وللثقافة، إلى 'مخاطبة' العالم ككل، وبدافع من الرغبة في الانخراط في 'صياغة معنى' هذا الأخير الإشكالي والإجمالي. و'في الجو الفكري الراهن فإن المرء ليستشعر إحساسا مفاده أن العالم ليس المجموع الكلي للأشياء بل للمعاني. كل شيء هو معنى، والمعنى هو كل شيء، وعلم التأويل (الهرمينوطيقا) هو نبي عالم المعاني هذا' كما يقول الأنثروبولوجي الأمريكي أرنست غيلنر في كتابه 'ما بعد الحداثة والعقل والدين'.

يحيي بن الوليد 

الوعي المحلق: إدوارد سعيد وحال العرب

يحيى بن الوليد

الوعي المحلق: إدوارد سعيد وحال العرب

يحيى بن الوليد