MENU
ZAILA.COM
Asilah.fr
CULTURE LOCALE
zaîla.Arts
مرايا الذّاكرة ...مرايا الزّمن
منية ساسي النّاصر
منية ساسي الناصر استاذة تعليم ثانوي - استاذة لغة واداب عربية بمعهد قرطاج الرئاسة من تونس الحسنية : تونسية
بين المرايا و الذاكرة علاقات توافقيّة و أحيانا عدائيّة.فبقدر ما للمرايا من قدرة على عكس صور الأشياء و الأشخاص بملامحها و أحجامها و ألوانها...،فللذاكرة قدرة أقوى من المرايا على ترسيخ و نحت صور الأشياء و الأشخاص في أعماق تاريخ الإنسانيّة. فالبشريّة تحتاج إلى صفاء المرايا و بريقها و لمعانها لعكس صور ترى من خلالها الواقع الماديّ الحينيّ،واقعا جذّابا مُغريا يُرضِي طبيعة الإنسان و شهوته إلى كلّ محسوس مادّيّ و خاصّة بصريّ. في حين يحتاج الإنسان إلى الذّاكرة يطوي من خلالها مرايا الواقع إلى صفحات تُخلِّد لصور ذهنيّة لا بل وجوديّة تشهد على عظمة الإنسان و ماخلّده من مآثر عبر التّاريخ فالذّاكرة آليّة وجوديّة و استعاريّة للصّورالمادّية الواقعيّة تظلّ ساطعة على امتداد العصور لتشهد الأجيال ويشهد الإنسان على بصمات و علامات لا يمكن طمسها بمجرّد شرخ أوكسر مرآة من مرايا الواقع.فَلِمَ هذا العنوان الرّمز و لِمَ هذا الاختيارالمقصود من الفنّان التّشكيلي المغربيّ المعاصر ؛عبد السّلام الشّويخ؟
اتّجاه هذا الفنّان إلى هذا العنوان بالذّات للوحته الفنّيّة التّشكيليّة "مرايا الذّاكرة...مرايا الزّمن" يعبّر بدقّة عن وعيه بمجموع هذه الأفكار.
و لئن كانت هذه اللّوحة في بدايتها و لحظة عرضها في مدينة أصيلة المغربيّة سنة2011 قد عبّرت عن شجاعة الجنود الزّيلاشيّين في مواجهة الظّلم و الاستبداد الاستعماريّ و أشعّت و رمزت بمراياها إلى هذه الذّوات البشريّة و ما تحمله من قيم إنسانيّة نبيلة و غيرة على مصالح المجموعة الوطنيّة فقد تحوّلت فيما بعد إلى رموز وعلامات جديدة تجاوزت حدود الوطنيّة الضيّقة لتحمل معها عبء و ثِقل القضايا الإنسانيّة عامّة بفضل ما عمد إليه هذا الفنّان التّشكيليّ العبقريّ بجعل هذه اللّوحة تسافر من أصيلة ؛القلعة الحربيّة و سجلّ الزّمن المضيء إلى فضاءات جديدة لعرضها و تقديمها لجمهور الفنّ و للنّاس عامّة فتخلّص من كلّ التّقاليد الثّقافيّة للعرض فغادر فضاءات العرض التّقليديّة كالمعارض السّنويّة و الأروقة و التّظاهرات التّشكيليّة ليتّجه إلى الفضاء المتّسع و إلى الهواء الطّلق ،أمام العابرين من مختلف الجنسيّات و الأجناس و الألوان و الانتماءات...لينشئ حوارا فنّيّا إنسانيّا و يسعى للترويج رسالته الفنّيّة الّتي تتّخذ من القضايا الإنسانيّة الرّاهنة موضوعا لها
فجسّد فكرتها تشكيليّا فاعتمد محامل خشبيّة أشبه بتوابيت حافظة لذاكرة أعلام :لعلّها أعلام المعرفة الإنسانيّة لصفاء عقولها و نبوغ وعيها و إشعاع علمها وإشعاع علمها وأدبها و سُطوع نجمها لأنّ المعرفة إنسانيّة و الأدب و العلم إنسانيّ و الفنّ إنسانيّ.و لأنّ الفنّان إنسان و لكلّ إنسان ذاكرته فذاكرة الفنّان الملتزم مثل عبد السّلام الشّويخ لا بدّ أن تحمل معها ذاكرة الإنسانيّة و قضاياها على محامل فنّه الخالد.فالفنّان ذاكرة حيّة على مرِّ التّاريخ .ولعلّ المرايا المحمولة هي مرايا وجوه الآخر المتعدّدة الحامل لذاكرة المعارف الإنسانيّة الفردية منها و الجمعيّة حيث يعمد إلى إعادة إنتاجها بالتّجريد الفنّيّ والتّشكيليّ و التّخييليّ و لهذا كانت هذه المرايا نِتاجا لذاكرة الأنا و مرآة عاكسة لمختلف منظوراته للآخرالمتعدّد الوجوه . ففكرته تتّجه نحو تجريد الجزئيّات إلى كينونة حقيقتها في الكلّيّات فما نراه من خلال هذه المرايا ليس هو الحقيقة العينيّة المرئيّة أو الصّورة الذّهنيّة الّتي تحقّقها الرّؤية البصريّة بل إنّ لغة التّشكيل والتّجريد وحَّدت الصُّور إلى صورة إنسانيّة أساسها التّساوي رغم الاختلاف .
و عندما تصاحب الصّورة الفنّيّة صورة أخرى موازية من طبيعة ذهنيّة و على ضوء نموذجيّة العرض (طريقة عرض لوحة مرايا الذّاكرة) بانفتاحها على المحيط العالميّ،تنطلق التّوجّهات الفكريّة في هذا العمل الفنّيّ التّشكيليّ ناشدة جماليّة التّواصل الإنسانيّ فيفتح لنا نوافذ الفنّ للفنّ متخلّصا بذلك من كلّ الأسس المادّيّة و التّسويقيّة لعمله ليؤسّس لنا صورة أخرى تقوم على استعادة فكرة العرض الأولى وصياغتها وفق فكر جماعيّ يناشد تبادل الآراء والمقترحات .و بنفس القدر ،ألا يسترجع ذلك العرض أدبيّات الجماليّة المثاليّة الّتي ظهرت في القرن 18 إيمانوويل كانط أسس الحداثة الجماليّة وهو القائل في نقد ملكة الحكم (critique de la faculté de juger) فالفنّ غائيّة مستمرّة دون نهاية منفعيّة ،و متعة خالصة منزّهة عن المصلحة (plaisir désintéressé)
لقد اعتمد هذا الفنّان العبقريّ عمليّة تجميع و تنظيم و تنسيق المرايا و خلق تكوينة من المربّعات في مربّع واحد مُوَحِّدٍ ليؤسّس لنا صورة جديدة وفق نسيج ترابطيّ مُوَحَّدٍ ووفق جماليّة خاصّة تتحدّى رتابة التّعامل مع العمل الفنّيّ .
و يكفي هذا الفنّان أنّ أعماله تسافر عبر المحيطات إلى كلّ البلدان من الشّرق إلى الغرب و من الدّفء إلى البرد من المغرب إلى باريس المرايا المتعدّدة للآخر ،مدينة الحرّيّة و العلوم و الثّقافة و الفنون الجميلة ،إلى إسبانيا بلد الحنين و القصور ...في انتظار حلولها بين أحضان تونس الخضراء :تونس قرطاج و باردو... ليُدخِلَ الدّفء إلى قلبه و يجعله على حميميّة دائمة مع النّاس عكس فضاءات الأروقة الباردة و ما يطبعها من حفلات مصطنعة فالأمكنة تمتلك دوما تاريخيّتها الّتي تحدّد منزلتها في الذّاكرة الفرديّة و الجماعيّة أو الإنسانيّة ما يجعل كلّ انتقال في المكان يعني تغييرًا في البنية الزّمنيّة و تعديلا في الذّكريات و العلامات الدّالّة على الهويّة و مرايا وجوه الآخر المتعدّدة بذاكرة الفنّان عبد السّلام الشّويخ عاكسة لهويّة إنسانيّة واحدة في شتّى تجلّياتها .
تلك هي وظيفة الفنّ التّشكيليّ المعاصر :تحقيق التّواصل بين الأفراد في مستوى المشاعر و الرُّؤى ممّا يكسب الأفراد هويّة مميّزة عبر تخليد ذكرى الإنسان و حضارته عبر التّاريخ و توسيع الأفق الذّهني للمجتمعات من خلال إكسابهم الوعي بالقضايا الإنسانيّة كالعدالة والمساواة و الحرّيّة و التّسامح والانفتاح....وهو ما ينطبق على لوحة"مرايا الذّاكرة ...مرايا الزّمن"الّتي انطلقت من أصيلة لتكون خطابا فنّيّا رافضا للاستعمار و الحروب داعية للأمان في العالم و الاستضاءة بنور المعرفة و الاسترشاد بضوء العلوم و الآداب الإنسانيّة ممّا طوّر الحواربين الثّقافات و قرّب الشّعوب إلى بعضها البعض وهو دليل واضح عى أنّ لوحة"مراياالذّاكرة"هي عمل فنّيّ منفتح على الكونيّة.
و يفاجئنا الفنّان عبد السّلام الشّويخ بحلّة جديدة لنفس اللّوحة بتاريخ مارس2015 في إخراج جديد في شكل لوحة أكريليكيّة جمعت بين المرايا المضيئة لذاكرة الإنسان و ألوان الطّبيعة و المحيط:الأزرق و الأخضر و الأسود في تناسق وتداخل و تضادّ...وفي حركيّة لا نجدها في اللّوحة الأصليّة فالنّسخة الثّانية من "مرايا الذّاكرة"تسعيد حضور الطّبيعة على نحوٍ خاصٍّ ليس بمعنى أنّ اللّوحة تحاكي الطّبيعة بل بالمعنى الّذي طرحه الفنّان عبد السّلام الشّويخ وكأنّني أستحضر في سياق ذلك ما قاله الكاتب الإنكلزي أوسكار وايلد :"إنّنا أصبحنا نتحسّس جماليّة الطّبيعة من خلال ما يقدّمه لنا الفنّ "و كأنّه يصرّح فلسفيّا بأنّ"الطّبيعة تقلّد الفنّ"و لعلّ هذا العمل الفنّيّ الّذي اكتسى حلّة جديدة ليس مسألة عرضيّة بل يجرّ وراءه منعرجا في المحتوى المعروض و منعرجا جديدافي بنية الرؤية الجماليّة لهذه التّجربة و ما يرافقها من فكر تنظيريّ يتخطّى الإطار المكانيّ و الزّمانيّ ليستدعي من جديد جمهورا عريضا يتحاور معه و ينفتح على آرائه و مواقفه ليشكّل منها هويّة جديدة لتكون مرآة للصّورة الفنّيّة الّتي ترسّخ إنسانيّة اللإنسان من جهة و طبيعيّة الطّبيعة من جهة أخرى باعتبارها مصدر المادّة الّونيّة و الضّوئيّة و أصل اللّغة التّشكيليّة و بذلك حقّقت هذه اللّوحة بعدا رابعا للصّورة هو البعد التّواصليّ الإنسانيّ٠